المختار ولد اجاي مقاتل يرفض الحلول الوسطى

رمى حزب الإنصاف أحد معاقل المعارضة بأحد أكثر قياداته زخما وإثارة، حين أعطى دفة تنسيق الحملة في العاصمة نواكشوط لوزيرالمالية ومدير تسنيم السابق المختار ولد اجاي.

 

ولد اجاي المنتمي لعاصمة السياسة في موريتانيا، مگطع لحجار، والقابض على جمر المواجهة الإعلامية والسياسية مع قوى معارضة،والصامد في وجه سهام بعض قوى الأغلبية المناوئة، يدرك أنه لا ينتدب لنزهة بين جونابه ولگراره، فهو يتحمل مسؤولية إنجاح عمد ونوابورئاسة جهة في عاصمة يزداد نبض الوعي السياسي فيها، بما يعني من تشتت في لأصوات وتدقيق في خلفيات المرشحين.

 

وهو يقود أغلبية متنافرة الأصوات بفعل كثرة الترشيحات، وحزبها الرئيس مثقل بكثرة المغاضبات. لكن الممسكين بدفة الأمور يدركون أنه ليسلهذه المعركة غير الرجل الذي لا يقهر، المختار ولد اجاي.

 

عندما غادر المختار ولد اجاي قاعة استجواب لجنة التحقيق البرلمانية، همس أحد أعضاء اللجنة البرلمانية لزميله؛ "هذا هو الوحيد الذياستحق مكانه من كل الذين قابلناهم". اختار ولد اجاي الطريق الصعب في التعاطي مع ملف التحقيق، فصرح بأنه يتحمل كافة المسؤولياتعن كل القرارات التي اتخذها. لذلك سار في طريق القضاء حتى نهايته، دون أن يقبل الحلول الوسطى.

 

المنطق الجذري

يلتزم المختار ولد اجاي في كل خرجة إعلامية بحقن الساحة بجرعة من الجدل عالية التركيز والضوضاء، لسبب بسيط؛ فهو يعبر بملء فيه عمايريد قوله، دون أي نوع من انتقاء الكلمات، أو  محاولة تلطيف دلالاتها.

 

تعطي هذه الخاصية في خطاب الرجل وأحاديثه فرصة استثنائية لمن يفاوضونه على حلول وسط في ملفات أخرى بعيدا عن أعين الإعلام.

 

بقليل من التأمل يمكن أن يعرف المتابع أن هناك من هو مستعد للهجوم على ولد اجاي بمناسبة وبدون مناسبة. ولا تخفى أيادي البعض ممنلهم سطوة في الصحافة، ونعم على بعض المدونين.

 

لكن لا أحد يسأل، كما هي العادة في بلد لا تقاليد فيه للصحافة الجادة، عن سر  هجوم شيعة رجال أعمال على وزير مالية، ومدير ضرائب!. لا أحد!!.

 

ما لم تسأل عنه الصحافة احتفظت به سجلات الضرائب، فقد كانت هذه البنوك تسجل رقم أعمال لدى البنك المركزي يبقي لها الامتيازاتالتي يعطيها النظام المصرفي للمؤسسات المالية الناجحة، وتقدم للضرائب أوراقا تجعلها على حافة الإفلاس لأن ذلك يعني ضرائب في أدنىالمستويات. لم يزد المدير الجديد للضرائب على أن طلب أن تحمل الوثائق المقدمة للضرائب ختم البنك المركزي، أي أن تكون مطابقة لتلك التيتقدم للبنك المركزي، وهو ما حول المبلغ الذي تدفعه البنوك مجتمعة من 1.5 مليار سنويا، إلى 10 مليار . 

 

لكن لأن البعض كان أسبق إلى الدفع للصحافة والمدونين، ولأن ولد اجاي كان يعبر بملء فيه عما يراه فقد جُنب الإعلام ساحة المعركةالحقيقية، واختيرت له ساحة السياسة، وربط ولد اجاي بسلبيات نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.

 

البداية من التعليم

أيام الرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله احتدم الجدل بين وزيرة التعليم الأساسي نبغوها بنت حابه والنقابات، خاصة نقابةأساتذة التعليم الثانوي التي يسيطر عليها التيار الإسلامي. طالبت النقابات بإشراكها في مسار الإصلاح، ورأت الوزيرة أن لوبياتالأساتذة تقف عائقا دون إصلاح التعليم وتتخذ النقابة واجهة لممارسة ضغوطها. 

 

تطور الأمر إلى مواجهة إعلامية بين الوزراة والنقابة، فلم يكن في جعبة الوزارة غير مستشار فني واحد يحفظ كل الملفات، وبإمكانه أن يقولما يعتقد. كان نقيب الأساتذة يومها الشاعر والكاتب الأستاذ محمد ولد الرباني، فغادر مبنى التلفزيون الوطني، بعد مناظرة مع ولد اجاي،وأغلب أعضاء نقابته يتمنون لو كانوا في جنب الوزارة، أو كان المختار ولد اجاي نقيب الأساتذة. 

 

 لاحقا سئلت الوزيرة الصريحة عن سبب عدم تعيينها طواقم، أو إجراء تعديلات كما يفعل كل وزير، فقالت "كفاني المختار". وينقل عنهاالقول إن كل الذي قامت به من إصلاحات كان باقتراح، أو مشاركة من المختار. لم يطل عمر بنت حابه في الوزارة، ولم يطل مقام ولد اجايبعدها في موقعه.

 

فقد اختارت له الأقدار أن يخضع لاختبار جدي في واحدة من أعقد إدارات البلد، وأكثرها أشواكا. كان الرجل قد عرف من تجربته القصيرةفي وزارة التعليم أن أنصاف الحلول لا تغير الأوضاع.

 

في عش الدبابير

في إدارة الضرائب حل الشاب القادم من مكطع لحجار، حيث تورق الخصومات السياسية في أودية الأيولوجيا، وتتراكم أوراق السياسيينبأيدي أكثرهم دربة، وأطولهم تجربة، ضيفا على أكوام من أوراق رجال الأعمال والمستثمرين، لا يهتدي في تضاعيفها إلا خمسة متقاعدين،وعدد من المحصلين على أبواب التقاعد. 

أي أنه وجدها عمليا من دون ذاكرة، فيمكن لهذه الشركة أن تدفع عاما مبلغا معينا، وفي العام القادم تدفع نصفه أو عشره، من دون أن تكونهناك آلية لكشف التناقض.

 

تحولت الـ 40 مليار أوقية التي كانت تحصلها الضرائب سنويا، إلى 144 مليارا، دون استحداث ضريبة، أو زيادة أخرى. وتحولت أكداسالأوراق المخيفة إلى نظام "جباية" الألكتورني، واستوعبت الإدارة شبابا كانوا عاطلين، أو معطلين. 

 

كانت أكثر من ثمانين بالمائة من المحاصيل الضريبية تأتي من الضرائب على رواتب موظفي الدولة وعقدوييها، وأقل من 20% بالمائة تأتيمن رجال الأعمال، ومن الشركات الأجنبية العاملة في البلاد.

 

 لم يزد المدير الجديد للضرائب على أن توجه إلى العنوان الصحيح؛ فلدى رجال الأعمال استثمارات بالمليارات، ولدى الشركات الأجنبيةالعاملة في البلاد مداخيل وأرباح بالمليارات. 

 

وقد تقدم نموذج من التعامل مع البنوك. وهنا مثال آخر؛ فقد تطور ما تدفعه شركتا MCM  وتازيازت من حوالي 2 مليار أوقية، إلى 12 مليارا، وما تدفعه شركات الاتصال الثلاث من 6 مليارات، إلى 25 مليارا، سنويا. 

واستفاد ذوو الرواتب المتوسطة والضعيفة من زيادة 20 ألف أوقية شهريا كحد أدنى، نتيجة إصلاح نظام الضريبة على الأجور.

 

مقاتل في قلعة متهالكة

كان مكتب الوزير مضاء بشكل طبيعي حوالي الساعة 12 ليلا، فاستغرب أحد كبار موظفي الوزارة، قرر الموظف سؤال الحارس، لكنه قبل أنيسأله شاهد سيارة الوزير، وسائقه. قاده الفضول إلى مكتب الوزير، فوجده مفروشا بالأوراق، ووجد الوزير  ممددا، يقرأ الأوراق ويقارنها،ويعيد قراءة بعضها. عرف لاحقا أن هذه طريقة الوزير الجديد في التعامل مع الملفات. "إنه لا يوقع ملفا حتى يحفظ تفاصيله".  بهذه الروحخاض ولد اجاي تجربته في وزارة المالية.

 

فكانت حربه على الازدواج الوظيفي، بدمج موظفي المؤسسات العمومية في نظام الرشاد، وهو ما مكن من إلغاء 3500 راتب كان أشخاصيتقاضونها مع أنهم موظفون في مؤسسات أخرى. 

انتهت تلك الحرب بربح الدولة 7مليارات أوقية شهريا. وأنهت عملية الدمج تهديد صندوق التأمين الصحي بوقف الدفع عن موظفي المؤسساتالعمومية، فبعد دمجهم في نظام الرشاد أصبحت الاقتطاعات تذهب مباشرة إلى صندوق التأمين الصحي، وأصبحت رواتب الموظفين فيمأمن من أي تأخير.

 

مع نهاية العام 2014، والأشهر الأولى من العام 2015 كانت المالية الموريتانية تتهاوى على وقع سلسلة من الأزمات، يتقدمها انخفاض غيرمسبوق في أسعار  المعادن (مصدر دخل الدولة الرئيسي حينها)، ولا تنتهي بتوقعات صندوق النقد الدولي بتراجع نمو الاقتصاد إلى أدنىمستوى له في التاريخ (ناقص 6) وكانت الخزينة العامة للدولة لا تتوفر على رصيد كاف لدفع الرواتب شهرين متتاليين. وقد بدأت الأرقام فيالتسحن بمجيء ولد اجاي، حتى وصلت إلى نسبة نمو قارب 7% 2019. 

 

هل كان بهذا وزير مالية العشرية؟ هذا ما يريد خصوم الرجل أن يلبسوه. ولكنه كان وزيرا للمالية والاقتصاد في نظام تبين لاحقا أن قيادتهارتكبت أخطاء فادحة فيما يتعلق بمحاولات الإثراء، ووجدت طرقا متعددة للاستيلاء على كثير من أموال الدولة، وكان موقعها يسمح لهابالتلاعب بكثير من الإجراءات، دون أن يكون لوزير المالية والاقتصاد وزر مباشر في ذلك. 

 

ولكن السؤال الذي لم يسأله أحد، هو: هل كان بإمكان وزير أن يقف في وجه ولد عبد العزيز؟ إن المقاربة التي اعتمدها ولد اجاي وغيره كثيرمن أطر موريتانيا هي "مسايرة ولد عبد العزيز، مع العمل في حدود الإمكانات التي تتيحها النظم، والأعراف. وفي تحدي ولد اجايللصحافة، ولخصومه أن يثبتوا عليه تهمة فساد واحدة، أو يأتوه بخبر عن ثروة له أو لأحد أقاربه من الدرجة الأولى دليل على أن الرجل لميسرق المال العمومي.

 

اقتصادي في عواصف السياسة

رافقت عواصف السياسة الإطار المالي؛ حتى محت زوابعها صورة رجل الاقتصاد، ولكنها منحته قوة إضافية؛ فلم تكد عشرية الرئيسالسابق تنقضي حتى كان ولد اجاي يكاد يبسط سيطرته على مقاطعة مكطع لحجار ذات الإرث السياسي العريق.

 

تزاوجت دعاية المجموعات السياسية في المقاطعة، ولها كلها امتدادات في العاصمة نواكشوط، مع دعاية مجموعات المال والأعمال، مع دعايةالخصوم داخل المنظومة الحاكمة، لتصور الرجل وكأنه المسؤول الأول في الدولة. ظل ولد اجاي ممسكا قلم الإدارة بإحدى يديه، رافعا علمالسياسة بيد أخرى، فلم تشغله الوزارة الصعبة، ولا الإدارة الفنية في الحملة، ولا معارك الإعلام والسياسة المحلية عن قيادة واحدة من أنشطالمبادرات في حملة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

 

إطفائي في رئة الاقتصاد

جاء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بأطروحة مفادها قتل السياسة وإحياء الإدارة والحكومة، ومع أن قتل السياسة ليس ممكنا، إلا أنإنهاء الأزمة السياسية المستحكمة منذ عقود تطلب إسكات طبول السياسة، وإبعاد رموزها المثيرين عن الواجهة الحكومية الأولى. لكن ولدالغزواني كان أدرى بمعادن الشخصيات، وبقدرات البلد من الكفاءات من أن يضحي بشخصية مثل المختار، ويتركه بسبب زوبعة كلامية.

 

كان أحد عناوين التركة الثقيلة التي ورث ولد الغزواني وضعية شركة اسنيم؛ فهذا العملاق تمثل قيمته المعنوية والمادية والاجتماعية حواليثلث اقتصاد البلاد، لكنه آخذ في التهالك بسبب سوء الإدارة والحكامة، والتسييس، وقد ساء حظه في الأعوام الأخيرة بسبب مضاعفات أزمةتراجع أسعار الخام. وتراكم الفشل في إدارة العلاقة بين أداة الإنتاج الأولى (الموار البشرية)، وبين الإدارات المتعاقبة.

لم يضيع ولد اجاي الوقت في المناقشات، وانخرط في حوار يومي مع العامل البسيط عبر دخوله كل مجموعات العمال على الواتس آب،فاستمع إليهم بشكل مباشر، دون عوازل من الإدارات، ولا وسائط من النقابات. راهن على أن مضاعفة الإنتاج ستكون وسيلته نحو النهوضبالشركة، وتحسين ظروف العمال سيكون طريقه نحو زيادة الإنتاج. حلها بالرياضيات البسيطة!!.

 

شيعته صرخات السياسيين مستهجنة، ومتهمة من عينه بالردة، واستنساخ النظام السابق، وشيعته دموع العمال بعد 18 شهرا قضاهاالرجل في تطبيق معادلته البسيطة؛ زيادة الإنتاج تعني زيادة الدخل، وهذه تعني تحسين وضع العمال.

 

تضاعفت سيولة الشركة خمس مرات، وكسرت الأرباح حاجز المائة مليار أوقية في سنة 2019، وحاجز الـ200 مليار سنة 2020. 

 

بدأت أشغال تعميق الميناء الذي يقدر أن ينقص تكاليف النقل بثلاث دولارات للطن الواحد، وبدأ العمل بخطة مضاعفة الإنتاج في أفق العام2026. وربحت الشركة 100 يوم عمل كانت تضيعها الإضرابات سنويا.

 

هل هذه إنجازات لعزيز؟

قد يكون، ولكنها بالدرجة الأولى إنجازات الدولة الموريتانية وللرجل الذي باشر الملفات، وانتزع رئيسه الصعب المراس بعض القرارات الحاسمة في تاريخ المالية والضرائب.

 

وكان يتجنب المواطن التي يمكن أن تثير عليه رجلا لا يرحم حين يقترب أي كان من مصالحه الشخصية. قامت فلسفة الرئيس غزواني فيالحكم على الاعتراف بإنجاز من سبقوه، ولكن الاعتراف بالإنجاز لا يعني حصانة من المحاسبة على الأخطاء.

 

المثير للجدل

يختار الطريق الصعب في خوض معاركه؛ فعدم إيمانه بأنصاف الحلول يغلق طريق النفاذ على خصومه، فإما هو ، وإما هم. تصلح هذهالطريقة لإدارة المعارك المحدودة، لحاجتها إلى الحسم السريع. وهي ناجعة في معارك الإصلاح الإداري والمالي، ولكنها لا تصلح لإدارةالحروب طويلة الأمد، مثل حروب السياسة، والإعلام. 

 

ليس المختار رجل سياسة بالمعنى التقليدي، وإنما هو رجل دولة لديه منظور مختلف للأشياء. كل الأشياء تقريبا؛ فهو يعتقد أن السياسي أورجل الدولة هو ذلك الذي يقول ما يرى، وما يعتقد غير مبال بردات الفعل المترتبة عليه.

 

تقول القاعدة الذهبية في تقويم الرجال: "إذا أردت تقييم سياسي فاعرف من هم خصومه". إذا طبقت هذه القاعدة على المختار سنجد أنهترك خصوما في كل مكان مر به، مما يعقد الوضع، وإذا كان الحكم صعبا على خصوم المختار في السياسة، فإنه ليس كذلك بالنسبةلخصومه في الضرائب والبنوك والاقتصاد.

 

من عيوب الرأي العام الوطني أنه يترك من يضحون من أجل القضايا الوطنية منفردين في وجه هجومات الجبهات المختلفة؛ فكم من شخصيةإصلاح اقتصادية اغتالتها معنويا شبكات رجال الأعمال، ولوبيات الفساد بترويج مقولات يسهل حفظها وتكرارها، لكن معركة تلك اللوبياتالحقيقية مع سلوك ذلك الشخص.

 

لن يكون ولد اجاي إلا نموذجا لرجل دولة له أخطاء وإنجازات، ولكنه ليس شريرا مطلقا، وحجم الفاعلية التي يمتلك تشفع للأخطاء التي يمكنأن يرتكبها.

 

بقلم: عبد الله ولد حبيب الله

16 April 2023