قيادة فنية لوكالة التكوين التقني والمهني: شرط حاسم لإنجاح الإصلاح في موريتانيا

يشكّل إنشاء الوكالة الوطنية للتكوين التقني والمهني في موريتانيا خطوة مفصلية في مسار إصلاح قطاع ظلّ لسنوات طويلة الحلقة الأضعف في منظومة التعليم، رغم كونه الأكثر ارتباطًا بسوق العمل، والأقدر على امتصاص البطالة، وتأهيل اليد العاملة الوطنية، فالوكالة ليست مجرد هيكل إداري جديد، بل أداة تنموية استراتيجية يُفترض أن تواكب التحولات الاقتصادية الكبرى التي تعرفها البلاد، خاصة في قطاعات الغاز والتعدين والزراعة والصيد.
وقد جاء هذا القرار استجابة لاختلالات بنيوية تراكمت على مدى عقود، من أبرزها ضعف مواءمة عروض التكوين مع حاجيات سوق العمل، وبطء التكيف مع التطورات التكنولوجية، وتشتت الحكامة، وازدواجية القرار، إضافة إلى محدودية التمويل وضعف إدماج الخريجين في النسيج الاقتصادي، ومن هذا المنطلق، فإن تجميع مؤسسات التكوين الفني والمهني تحت مظلة وكالة وطنية واحدة يُعدّ خطوة جريئة وضرورية لتجاوز التسيير المجزأ، وتحسين النجاعة في استخدام الموارد.
غير أن نجاح هذا الخيار الاستراتيجي لا يتوقف على إنشاء الوكالة في حد ذاته، بل على كيفية تجسيده عمليًا، وخاصة على طبيعة القيادة التي ستتولى إدارتها، فالوكالة الوطنية للتكوين التقني والمهني هي مؤسسة فنية وتنفيذية بامتياز، وليست إطارًا سياسيًا. وهي مكلفة بمهام تقنية معقدة، تشمل تسيير شبكة مؤسسات التكوين عبر البلاد، وإدارة صندوق التكوين، وتصميم المناهج بالتعاون مع القطاع الخاص، وتعزيز إدماج الخريجين في سوق الشغل.
وفي هذا السياق، يبرز دور المدير العام كفاعل استراتيجي محوري، لا كمجرد مسيّر إداري، إذ يتطلب المنصب فهمًا عميقًا لاقتصاديات التكوين، وهندسة البرامج، وحاجيات القطاعات الإنتاجية، وآليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فقيادة فنية متخصصة قادرة على تسريع وتيرة الإصلاح، وتعزيز مصداقية الوكالة لدى الشركاء الاقتصاديين والمانحين، وضمان استقلاليتها وفعاليتها بعيدًا عن منطق التسييس.
في المقابل، يحذّر العديد من المهتمين بالقطاع من مخاطر إسناد قيادة الوكالة إلى شخصية سياسية من خارج المجال، لما قد يترتب على ذلك من غياب للرؤية التقنية، وضعف في المصداقية، وإطالة لفترة التأقلم، بما تحمله من كلفة زمنية ومالية لا يحتملها القطاع في هذه المرحلة الحساسة، كما أن هذا الخيار قد يحوّل الوكالة إلى إدارة بيروقراطية جديدة، تستهلك الموارد دون تحقيق أثر تنموي ملموس، وتعيد إنتاج إخفاقات الماضي بأدوات مختلفة.
ويُعدّ التكوين التقني والمهني ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية وتشغيل الشباب، وجسرًا حيويًا بين منظومة التعليم وسوق العمل، ومن شأن قيادة فنية مؤهلة أن تُسهم في تحديث البرامج، وربط التكوين بحاجيات الاقتصاد الوطني، وتأهيل المكونين، وإدخال نظام التكوين بالتناوب، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص، بما يضمن ملاءمة مخرجات التكوين لمتطلبات السوق.
إن تعيين قيادة غير فنية للوكالة لا يهدد فقط نجاعة مؤسسة بعينها، بل يُعرّض قطاعًا حيويًا بأكمله لخطر إهدار فرصة تاريخية للإصلاح، ويكرّس منطق التسيير المجزأ وازدواجية القرار الذي سعى إنشاء الوكالة إلى تجاوزه.
اليوم، تقف موريتانيا أمام مفترق طرق واضح، إما وكالة وطنية تُدار بعقل مهني صقله التجارب فتقود إصلاحًا حقيقيًا، وتتحول إلى رافعة للتنمية والتشغيل، أو وكالة تُدار بعقل سياسي فتُضاف إلى قائمة الهياكل التي لم تحقق النتائج المرجوة منها ، والاختيار هذه المرة يجب أن يكون في صالح الوطن ومستقبل شبابه، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة، لأن التجارب السابقة أثبتت أن الإصلاح لا تصنعه الهياكل وحدها، بل تصنعه الكفاءات التي تقودها.
محمد فال ولد يحي