نص خطاب وزير الثقافة في افتتاح ملتقى التبادل حول "مسودة قانون الصحفي المهني"
السيد رئيس السلطة العليا السمعيات البصرية
أيها الحضور الكريم،
نلتقي معكم اليوم لنتناول معا موضوعا بالغ الأهمية والحساسية في آن واحد، لأنه يتعلق بالصحافة المهنية. وما الصحافة، في جوهرها، إلا حرية التعبير، وما حرية التعبير إلا الجانب الأهم من الحرية على إطلاقها، وما الحرية إلا التجسيد الفعلي لكرامة الإنسان التي استحقها في الأزل إذ يقول جل من قائل: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْر وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقْنَا تَفْضِيلا".
لقد ظلت الحرية حقا لا تستقيم الحياة الكريمة دونه، لذلك يقول المفكر عبد الحميد بن باديس إن "حق الإنسان في الحرية كحقه في الحياة،فمقدار ما عنده من حياة هو مقدارما عنده من حرية".
غير أن الحرية عموما، وحرية التعبير خصوصا، تتطلب النقاش المستفيض بغية نزع الأشواك وصقل الحقل ووضع الضوابط. وهو ما حدا بنا إلى أن نتشارك معكم هذه القاعة تجسيدا لخيار التشارك والتشاور الذي يطبع هذه المرحلة؛ ذلك الخيار الذي تبناه فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني قناعة ومنذ اليوم الأول، وتبناه معه طاقمُه التنفيذي، وهو الخيار الذي يجسد -في نظرنا- النواة الأولى والأداة الصلبة لتقديم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
إن قناعتنا راسخة بأن التشاور هو الطريق الأسلم للمحافظة على المكتسبات وتنميتها، وتصحيح الاختلالات وتجاوزها؛ لذلك مثّل العنوان الأبرز لتفاصيل العمل الحكومي؛ بل وتفاصيل تسيير الشأن العام كله.
لقد حرص الرئيس دائما على استشارة الجميع، وفي كل المواضيع. وإن إعلانه الأخير عن فتح باب التشاور بين كل فاعلي المشهد السياسي (معارضة وموالاة)، خير دليل على هذا النفس وعلى هذه الاستراتيجية.. إننا على قناعة راسخة بصدقية مثلنا الشعبي القائل ما فحواهأن "الإجماع على الرأي، ولو لم يأتِ بنتيجة، أفضل من الانفراد به ولو أتى بنتيجة".
جمعنا الموقر؛
كل الأمم التي سلكت درب النماء والاستقرار اعتمدت على التعاطي والتشاور؛ فتعاضدت سواعدُها وتزاحمت عقولها، والتاريخ مليء بعديد الحكايات والمواقف التي تبرهن على صحة هذا المنحى وتعززه.. بل إنها تكاد تختزل الموقف من ذلك في حديث الطبراني:"ما خاب من استشار وما ندم من استخار".
أيها الحضورالكريم؛
إننا ندعوكم اليوم في هذه الورشة لنقاش موضوع طالما نوقش من قبل الكل، وأرّق الكل، ولم يألُ الكل جهدا ولا وقتا في بحثه وتعاطيه؛ إنه تعريف الصحفي المهني، وتمكينه من القيام بمهمته على أحسن وجه، وحماية حقله من التعسف تجاهه، وحمايته من المتطفلين عليه، وتوجيه بوصلته لتسلك مسالك القانون... ذلك الإشكال الذي سال حوله مداد كثير، واسودت في سبيله قراطيس عديدة؛ ومع ذلك ظل يراوح مكانه؛ ليكون فضاءُ الصحافة المحترم، وصورُتها الناصعة، وأملُ مساهمتها في تنمية البلد، ضحيةَ هذا الواقع.
إخوتي الكرام؛
مهما كان حجم التحدي الذي يواجهنا في هذه الإشكالية، ومهما كان وزن تراكم الاختلالات فيها، ونتيجة وعينا بذلك كله؛ فإن طموحنا وجديتنا وصدقنا كفيل -دون شك- بالانتصار على تلك المعيقات وتذليلها؛ فبالمصارحة والمشاورة والموضوعية والعزيمة سنرفع راية النصر؛ فلا شك أنكم -أكثر من غيركم- تدركون أهمية الصحفي في البناء المؤسسي للدولة الديمقراطية، وفي ترسيخ العدالة والحرية العامة والحرية الفردية، خاصة أن بلادنا عضو في المنظومة الأممية، ما جعلها محكومة، قناعة وتنفيذا، بمضمون المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على أن "لكل شخص حق التمتع بحرِية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق تبني حرِيته في الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود".
كما أنكم تدركون مدى أهمية دور الصحفي المهني في تسريع الوتيرة التنموية؛ إذ يمثل السلطة المتعالية على كل السلط؛ فبوجود الصحفيين المهنيين يتقلص الفساد، وتتسع رقعة الشفافية، وتترسخ دولة المؤسسات والقانون، وتتعزز قيم المواطنة.. فالسلطة الرابعة هي الركيزة الأهم في بناء الدولة الحديثة؛ فبالتقرير والاستقصاء والتحقيق والتحليل المهني تظهر النواقص التنفيذية والتشريعية والقضائية وتصحح الأخطاء، وبوجود صحفي مهني وصحافة مهنية تتوجس منها الشخصيات العامة، وتضع عديدَ الحسابات لأي تصرف.. إنه رافعة أساسية لخلق المزيد من الشفافية وإضفاء المزيد من الجدية..
وبالمقابل، حين تغيب المهنية يغيب الشعور بالمراقبة من طرف المسؤول العام؛ كما تتحول الصحافة إلى أداة لزرع وتجذير المفاهيم المناقضة لمفاهيم الدولة الوطنية. وعندما تغيب المهنية يغيب عنصر التروّي، وبغياب التروي يتم المساس بحرية الآخرين، فالحرية، كما عرّفها الفيلسوف جابر بن حيان، "إرادةٌ تقدمتها رويّة مع تمييز". والتمييز هنا يعني استقراء المآلات والتحقق من التداعيات، فالحر ليس من يتخبط على غير هُدَى، بل هو "من يصدر منه الفعلُ، مع الإرادة للفعل، على سبيل الاختيار، وعلى العلم بالمراد"، حسب التعريف البليغ للفقيه الأصولي أبي حامد الغزالي.
إذن، مع غياب الصحفي المهني يغيب التروي، ويغيب العلم بالمراد،وتكون الصحافة مِعولا لهدم النسيج الاجتماعي، ولاختراق قيم المجتمع وأمنه وسكينته ووقاره.. بل يتجاوز التأثير السلبي -لغياب المهنية- الواقع المحلي؛ خصوصا مع ثورة الاتصال التي نعيشها، ليعطي صورة سالبة؛ بل وقاتمة؛ لدى الآخر عن البلد.. عن عقلياته.. عن عاداته.. عن المؤسسية به..!
أيها الجمع الموقر،
إننا نريد أن نخرج من هذه الورشة بتعريف للصحفي المهني دقيق وشامل؛ تعريف "جامع مانع" على لغة الأصوليين؛ نريد ذلك الصحفي الذي يعرف ما له وما عليه؛ صحفي لا تحركه الرغبات ولا العواطف ولا حب الشهرة؛ وإنما تدفعه وتقوده المهنية والموضوعية؛ فلا يستَرخص الأعراض، ولا يستصغر الإشاعات، ولا يستمرئ الاستهداف.. إننا نريد أن يدفعنا الصحفي إلى تمثل مقولة السياسي العربي البارز،سعد باشا زغلول:"الصحافة حرة تقول في حدود القانون ما تشاء"، ومقولةالمفكر الفرنسي شارل دو سيكوندا Charles de Secondat: "الحرية هي الحق في أن نفعل كل ما تجيزه القوانين"، لأنه لا حرية خارج نطاق القانون، فالقانون هو الناظم لحدود الحرية. تلك الحدود التي لا يمكن أن يميزها إلا الصحفي المهني.. إننا نريد أن نستعيد للصحفي مكانته في وجدان الناس، بعد أن شوهها غياب المهنية والمسلكيات الأخلاقية.
إن المهنية جديرة -أولا- بخلق سياج على كل المسلكيات السالبة، وخليقة -ثانيا- بأن تكشف كل المتجاوزين لذلك السياج، أو الخارجين عليه.من هنا نعتبرها -بل ويعتبرها الجميع- تطعيما ضد السلبيات قبل ممارستها، وعلاجا لها حين تمارس. إنها وقاية وعلاج في ذات الوقت.
حضورنا الكرام؛
يمكننا الآن أن نزعم أننا قطعنا أشواطا جادة وصادقة في تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية وتعهداته المتعلقة بالصحافة، وتحويله إلى أمر معيش وملموس؛ بدءا بلجنة إصلاح الصحافة؛ التي اختيرت من الحقل نفسه، ومن أشخاص يُشهد لهم بالخبرة والمهنية، وقد أُعطُوا كل الوقت وكل الصلاحيات والوسائل؛ ليشخصوا الواقع المهني والمادي لهذا الحقل؛ ومن ثم يقدموا المقترحات والحلول، ما جعلهم يخرجون بتقرير كان محل تقدير واعتبار؛ وليس انتهاء بالمرسوم القانوني الأخير المتعلق بتعريف "الخدمة الصحفية الألكترونية" التي عانت -شأنها شأن باقي الخدمات الصحفية- من تمييع وتعويم؛ لم يعد يمكن معهما التمييز بين الصحفي والمدون، أو بين المحترف والهاوي؛ مما خلق جملة من الاستشكالات القانونية والأخلاقية.. كما أن الوزارة أنجزت نصوصا قانونية أخرى تتضمن السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية (الهابا) وصندوق دعم الصحافة، وما تم -كذلك- بشأن دار الصحافة، وتصحيح وضعية رواتب العمال الدائمين بالمؤسسات الإعلامية العمومية.. وغير ذلك من الخطوات التي أُنجزت،مع أن الطموح أكبر والإرادة أصدق. ونعدكم أننا ماضون قدما إلى أن يتحقق ذلك الطموح، وتنفذ كل تعهدات فخامة رئيس الجمهورية.
أيها الجمع المحترم؛
مع كل ما سبق -وكما أسلفت- يظل من حقنا أن نطمح إلى ما هو أكبر مما سلف ذكره، ويظل إصرارنا على تجسيد طموحاتنا أقوى أيضا.. كما تظل قناعتنا تتعزز بأنه من دون قانون يحدد الصحفي المهني ستبقى الصحافة مائعة، وستبقى ملاذا لكل متطفل، وموئلا لكل متكسب، ومحجة لكل متحامل.. ستبقى تشويها لحرية التعبير وحرية الرأي؛ كما هو الحال اليوم وللأسف الشديد.إننا لا نريد، من خلال هذا التشاور، أن نهدم حرية التعبير، بل نريد أن نبنيها، أن نؤسس صرحها، أن نرفع دعاماتها. إننا لا نريد أن نقتلها، بل نريد أن نحييها. يقول السوسيولوجي الفرنسي ابيير جوزيف برودون: "يجب أن لا نقتل الحرية الفردية، لكن يجب أن نجعلها اجتماعية"، ونحن بدورنا نريدها حية، اجتماعية، وواعية للبعد الاجتماعي والمجتمعي فيها.
وفي هذا الإطار تتنزل دعوتنا لكم، وتتنزل هذه الورشة.. إننا ندعوكم هنا كي تأخذوا زمام المبادرة.. فإذا كان هدفنا هو الحصر القانوني للصحفي المهني؛ فإن وسيلتنا -أيضا- هي الصحفي المهني.. من هنا لا يسعنا إلا أن نقول لكم بكل صراحة وصدق: دونكم وحقلكم؛ نقحوه وصححوه وسيّجوه ونحن رهن إشارتكم؛ نضع كل وسائلنا وإمكاناتنا عونا لكم حتى نرتقي -معكم وبكم- بواقع الصحافة والصحفيين. وإذ نفتتح هذه الورشة فإننا نفتح معها صدورنا وأبوابنا لكل ملاحظاتكم وآرائكم.. فلا تبخلوا علينا وعلى أنفسكم.. إنها لحظتنا وفرصتنا التي انتظرَتْها غالبيتنا ردحا من الزمن؛ فليس من اللائق ولا المناسب أن نخسرها؛ بل الأجدر أن نستغلها ونوظفها بكل ما أوتينا من طاقة.
وفي الختام أشكر كل الحاضرين وكذا الغائبين. وبودي لو حضر الجميع؛ لكن تأبى ذلك محدودية الزمان والمكان والظرف الصحي..
مرة أخرى، نعول عليكم كثيرا في صياغة مشروع قانون يؤسس لصحافة مهنية تساهم في ترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية، وتعزز السلم الأهلي والأمن المجتمعي، وتخلق صورة ناصعة عن البلد.. باختصار؛ صحافة تقدم محتوى إعلاميا يستجيب لأعلى المعايير المهنية والأخلاقية والمعرفية..
صحافة تعددية تعض بالنواجذ على الثوابت الإسلامية والمشتركات الوطنية والمصالح الاستراتيجية للبلد ونحن في القطاع جاهزون لترجمة كل ما سيتفق عليه هذا الجمع إلى نصوص قانونية في أسرع وقت.. من يرى هذا الجمع من الأجيال والمدارس الإعلامية فلا شك مطمئن إلى توفيق أعمال هذا الملتقى.
أشكركم أيها المشاركون وكل الشكر والتقدير لرجال الإعلام والفكر والسياسة الذين شرفونا ورفعوا لنا المستوى بحضور افتتاح أعمال لقائنا هذا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.