الموسيقى التقليدية في موريتانيا.. صمود تتهدّده العولمة
ينقسم المجتمع الموريتاني إلى العديد من المكوّنات من بينها مكوّن الموسيقيين التقليديين المنضوين ضمن عائلات معروفة تسمى محليا بـ”إيكاون”. فهذا المكوّن يتوارث الموسيقى كابرا عن كابر، حيث إن كل جيل يُسَلِّمُ المشعل إلى الجيل التالي.
وقد جعلت هذه الخصوصية من الموسيقى أو الغناء حكرا على تلك العائلات التي تحظى بتقدير خاص واحترام كبير عرفانا لها بالجميل في حفظ التراث والقيم.
وتختلف الموسيقى في موريتانيا عنها في الدول العربية الأخرى، لأنها تأثّرت بالشق الآخر غير العربي من المجتمع، ألا وهو المكوّن الزنجي الأفريقي، وهو ما منحها ثراء وتنوّعا كبيرين.
فن متوارث
تقول نجمة الغناء الموريتانية الشهيرة المعلومة بنت الميداح “إن الموسيقى في هذه الربوع تختصّ بآلاتها الإيقاعية المحدودة جدا، بل والمنحصرة في آلتين اثنتين فقط هما ‘التيدنيت’ للرجال و’آردين’ للنساء. مؤكّدة أن المجتمع الموريتاني توزّع قديما حسب مهام الحياة التي لا غنى عنها، فكل مُكوّن يؤدّي دورا معينا وفق تخصّصه”.
وتعرف الموسيقى العربية في موريتانيا بـ”أزوان”، وتختصّ بها وبالغناء أسر معروفة هي “إيكاون”، وتقوم على آلتين وتريتين هما التيدنيت وهي آلة ذات أربعة أوتار يعتقد أنها عود عربي تم تحويره بتأثير من الموسيقى الأفريقية، وهي خاصة بالرجال. أما الآلة الثانية فهي آردين، ولها ثلاثة عشر وترا وطبلة للإيقاع وتختصّ بها النساء.
ورغم أنه لا يُعرف تاريخ محدّد لظهور هاتين الآلتين، فإن فترة ازدهار “أزوان” كانت في ظل إمارة أولاد مبارك في الحوضين شرقي موريتانيا في القرن الثامن عشر.
وتقول أيقونة الغناء العربي في بلاد شنقيط “نحن الأسر الفنية توارثنا الاهتمام بالموسيقى جيلا عن جيل، والآباء المؤسّسُون كان لديهم قدر كبير من الاهتمام والعناية بها، فابتكروا هذا النمط الفريد منها”.
وأوضحت أن الموسيقى الموريتانية تمثل سجلاّ يحفظ للبلاد أمجادها وقيمها وتاريخها، مبيّنة أن إيكاون هم المجموعة الوحيدة التي سمح لها المجتمع بالغناء وتخليد الأمجاد والمآثر عن طريق صنف خاص يعرف بـ”التهيدين”، وهو التغني شعرا وأداء بالفروسية والشهامة والكرم.
وأشارت بنت الميداح إلى أن الموسيقى الموريتانية يمكن أن تُصنّف ضمن الموسيقى الخماسية التي تشتهر بها دول الساحل وبعض الدول الآسيوية وأميركا، مبيّنة أن آلتي العزف فيها لا توجدان عند أي شعب آخر.
وقالت إن الآلة النسائية آردين تسمى أيضا “جامع آنجاره” لأنها تجمع الطرق الثلاث للموسيقى المحلية، وتتعارف جميع العائلات الفنية في مختلف أنحاء موريتانيا على هذه الطرق، ولا تخرج عنها أبدا رغم اختلافها في الفروع أو ما يعرف محليا بـ”الأشوار”.
ونبّهت نجمة الموسيقى الموريتانية إلى احتمال وجود تشابه في بعض الإيقاعات مع البلدان المجاورة، خاصة من أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء.
وأبرزت بنت الميداح ضرورة تجديد نظام الموسيقى المحلية الذي لم يتغيّر منذ عصور ولم يعد يواكب وتيرة الحياة السريعة اليوم، مع المحافظة على الأصل والطابع المميّز. وقد سعت الفنانة بجهدها الخاص خلال مشوارها الحافل إلى تطوير هذا النظام من خلال أغان عديدة مزجت فيها بين الأصالة والمعاصرة فتركت التراث على حاله وأدخلت عليه إيقاعات جديدة من بعض الآلات العصرية مثل القيثارة والبيانو وقدّمتها للعالم بشكل مفهوم.
وعبّرت صاحبة أغنية “حبيبي حبيتو” المشهورة في موريتانيا والمغرب العربي عن قناعتها الراسخة بأن التراث، من أجل تقديمه إلى العالم، لا بد له من لبوس أو شكل يناسب الذائقة المتجدّدة للبشر، لكن من دون المساس بلبّه “فالتراث عندي مقدس”.
وأوردت كمثال على ذلك إحدى أغانيها التي مزجت فيها بين مقطوعة قديمة لوالدها مختار ولد الميداح مع كلمات للشاعر الموريتاني الراحل محمد ولد أحمد يوره بأدائها الشخصي وبلحن عصري، قائلة “هكذا في نظري يكون التجديد”.وعبّرت صاحبة أغنية “حبيبي حبيتو” المشهورة في موريتانيا والمغرب العربي عن قناعتها الراسخة بأن التراث، من أجل تقديمه إلى العالم، لا بد له من لبوس أو شكل يناسب الذائقة المتجدّدة للبشر، لكن من دون المساس بلبّه “فالتراث عندي مقدس”.
والمعلومة بنت الميداح الشهيرة باسم معلومة، من مواليد الأول من أكتوبر 1960، وهي مغنية وكاتبة أغان وناشطة سياسية. ولدت في جنوب غرب موريتانيا لعائلة ضليعة بالموسيقى الموريتانية التقليدية، فأبوها مختار ولد ميداح كان فنانا وعازفا مشهورا، وجدها محمد يحيى ولد بوباني كان كاتبا موهوبا وعازف آلة تيدينت بارع، وأمها عائشة بنت البُبّان تنتمي لإحدى العائلات العريقة في مجال الموسيقى التقليدية. وهي التي علّمت معلومة حين كانت في السادسة فقط من عمرها العزف على آلة آردين الوترية التقليدية التي تعزف عليها النساء.
وتعتبر معلومة من أهم فناني جيلها، حيث تميّزت بتطويرها لأسلوبها الخاص الذي جمع بين الموسيقى الشعبية وموسيقى البلوز والجاز والإليكترو. ومن خلال ظهورها في التلفزيون، تناولت موضوعات محلية مثيرة للجدل مثل الحياة الزوجية والفقر وعدم المساواة، ما جعلها تخضع للرقابة في موريتانيا في بداية التسعينات، ممّا جعلها تلجأ إلى الغناء خارج بلادها بحلول نهاية ذلك العقد.
وبعد رفع الحظر عنها، استأنفت معلومة مسيرتها الغنائية وحصدت شعبية كبيرة وخاصة بين الأجيال الشابة. وبإطلاقها لألبومها الرابع “إكنو” (2014)، عبّرت الفنانة الموريتانية المخضرمة عن آرائها المتعلقة بحقوق الإنسان ومكانة المرأة في المجتمع من خلال كلمات أغانيها.
وهي إلى جانب غنائها، حاربت للحفاظ على موسيقى بلدها، وحثّت الحكومة على إنشاء مدارس للموسيقى، كما أنشأت مؤسّستها الخاصة لدعم التراث الموسيقي، وأقيم مهرجان موسيقي خاص بها عام 2014.
مزيج موسيقي
يرى الفنان الشاب سدوم ولد أيده أن الموسيقى هي لغة الشعوب في التعبير عن قيمها والمحافظة على عاداتها ومُثلها العليا. وقال “إن لكل شعب موسيقاه التي تميّزه عن باقي الشعوب، وللموسيقى الموريتانية مجموعة من الخصائص تجعل منها مزيجا بين الموسيقى العربية والموسيقى الأفريقية الزنجية”.
ويوضّح أن هذه الخصائص تتمثل في بعض اللمسات الإيقاعية المتأثرة بالبيئة الصحراوية التي يعيش فيها المجتمع. واعتبر أن الموسيقى الموريتانية، بمقاماتها الخمسة، كأنها تحكي سيرة الإنسان من طفولته إلى شيخوخته مرورا بعنفوانه، مبرزا أن هذه المقامات تتماشى مع حالات الإنسان في تطّوره العمري وتقلّبه النفسي.
وأضاف سدوم أن الفنان الموريتاني يشكّل بمفرده أوركسترا متكاملة، فهو، من خلال آلتي التيدنيت وآردين، يقوم بعزف كل الألحان في جميع المقامات، وهذه ميزة يختصّ بها عن نظرائه في البلدان الأخرى، حيث أن الواحد منهم يقضي شطرا كبيرا من حياته وهو يدرس العزف على آلة واحدة ويتخّصص فيها ويظل مشتغلا بها وحدها طول حياته.
أما “إيغيو”، أي الفنان الموريتاني، فهو يلحن ويغني ويعزف ويضبط الإيقاع ويرتجل الألحان بل ويقرض الشعر المرتجل أثناء الغناء. وقدرة الفنان الموريتاني على تأليف الألحان وما أتيح له من وجود على تخوم حضارات متعددة أدّيا إلى ميلاد موسيقى غنية تتألّف من المئات من الألحان الموقعة أو غير الموقعة، تبلغ أحيانا أكثر من سبعين معزوفة ولحنا في المقام الواحد.
ورغم اقتصار ممارستها على شريحة إيكاون التي تتوارثها فقد كان توظيفها الاجتماعي كثيفا، واقترنت بالمكان والزمان والحدث فخلّدت البطولات وكانت الذاكرة الجمالية والوجدانية فاحتضنت الأدب وحركت العواطف ووحّدت الأذواق.
ومع ذلك يرى الكثير من الباحثين المختصّين أن الموسيقى التقليدية تواجه جملة من التحديات، من أبرزها رحيل كبار الفنانين الذين يتقنونها، وتغييب الفنانين عن تصوّر السياسات الثقافية للحكومات، وغياب أيّ رعاية أو اهتمام من الدولة بهذا الجانب من تراث البلاد، فضلا عن موقف ديني غير متصالح مع الفن.
ويقول نقاد إن التعاطي مع هذه التحديات “يتطلب حتما تدخلا رسميا من الدولة من خلال تبني استراتيجية تدمج بعدي الحماية والتطوير، وإنشاء معاهد لتدريس هذه الموسيقى”، وهو ما عملت على إرسائه المعلومة بنت الميداح، حيث تمكّنت في العام 2011، من إنشاء “مؤسسة معلومة” لحفظ وترقية التراث الموسيقي الوطني.
وتهدف المؤسسة لحماية الجذور الموسيقية العربية والأفريقية والبربرية في موريتانيا من خلال جمع وتخزين الموسيقى من أنحاء البلاد لحمايتها وإتاحتها لاستخدامات أخرى من بينها التعليم.
كما أقامت الفنانة مهرجانا للموسيقى الموريتانية عام 2014، وجاء ذلك بعد فترة قلق طويلة بشأن استبدال الموسيقى الموريتانية بالموسيقى المالية والمغربية التي يفضلها الشباب.